طاقية ابو عجوز

بقلــم‏:‏ أحمد بهجت

تنفس الصبح في القرية ودبت فيها الحركة كعادتها كل يوم‏..‏
كان ابوعجور نائما‏..‏
نصف نائم ونصف مستيقظ‏..‏

ان عينيه مفتوحتين ولكنه لا يتحرك‏,‏ يريد ان ينهض ولكنه اكسل من ان ينهض‏..‏
قال له صوت داخلي ـ يجب ان تنهض‏,‏ ولكنه رد عليه بقوله ـ لماذا انهض‏..‏ ليس هناك من يحتاج إلي‏..‏ انني أبدوا علي الدوام زائدا في المكان‏.‏ ووجودي او عدم وجودي سيان‏,‏ والناس يطلقون علي وصف التافه والهلفوت والعبيط‏..‏
لماذا ينهض اذن من نومه‏..‏
ظل ابوعجور في فراشه مستمتعا بكسله‏..‏

حدثته نفسه ـ ألا توجد وسيلة تقنع اهل القرية انه ليس تافها ولا هلفوتا‏..‏ ألا توجد وسيلة تقنع اهل القرية انه مجرم مثلا الي الحد الذي يخشون علي حياتهم منه‏..‏
هكذا كان ابوعجور يفكر‏..‏

فجأة‏..‏ شق السكون صوت صرخة قصيرة تحولت الي صويت يؤكد ان كارثة قد وقعت في القرية‏,‏ قاوم ابوعجور رغبته في النهوض ولكنه نهض بسرعة وفتح باب غرفته فاذا هو في الشارع‏..‏
كانت بهانة هي التي ترقع بالصوت‏..‏
سألها ابوعجور‏:‏ بتصوتي علي ايه يابت‏..‏
قالت بهانه‏:‏ شيخ البلد‏..‏
سأل ابوعجور‏:‏ ماله شيخ البلد؟
قالت بهانه ـ قتلوه‏..‏
سأل ابوعجور ـ مين اللي قتله‏..‏
قالت بهانه نافذة الصبر ـ ايش عرفني مين اللي قتله‏..‏
وفكر ابوعجور قليلا واتخذ قراره علي الفور‏..‏

يجب ان يذهب ليتفرج علي الموقف كله‏..‏ وعاد يسأل بهانه ـ وهو فين شيخ البلد دلوقتي‏..‏
قالت بهانه ـ في غيط الدرة اللي جنب الجامع‏..‏

لم يكا ابوعجور يسمع العنوان حتي عدل طاقيته فوق رأسه وتوجه علي الفور لمسرح الجريمة‏..‏
حين وصل لم يكن هناك عدد كبير من الناس‏,‏ بعض الصبيه والبنات وبعض من ليس لديهم عمل من الصايعين من اهل البلد وكان شيخ البلد راقدا علي وجهه وقد خمدت انفاسه‏..‏

ولما كانت الاخبار السيئة تنتقل اسرع من الاخبار الطيبة‏,‏ من هنا وصل شيخ الغفر ووصل بعده العمدة‏..‏
ومع مرور الوقت كانت الدائرة تتسع حول القتيل‏,‏ وكان أبوعجور يقف وسط الدائرة تماما‏,‏ ولكنه كعادته كان يقف دون ان يلاحظه احد ودون ان يعبأ به احد او يلتفت اليه احد‏,‏ وحين حاول الكلام اسكتوه باشارة سريعة من ايديهم‏..‏
وطالت وقفة ابوعجور‏..‏
كانت نفسه تحدثه باشياء وكان يحدث نفسه باشياء‏..‏ تلفت حوله فلم يجد احدا ينظر اليه‏,‏ ومد يده الي رأسه وخلع طاقيته والقاها علي الأرض وانصرف من المكان كله‏..‏

كان تقديره ان المباحث سوف تصل الي المكان‏,‏ وستعثر المباحث عن الطاقية‏,‏ وسوف تتبع مصدرها حتي تصل اليه‏,‏ وسوف يشيع في القرية كلها ان اصابع الاتهام موجهة اليه وانه قاتل شيخ البلد‏..‏
وهنا سيكف الناس عن اتهامه بالهيافة‏,‏ وسيبدأون بالخوف منه وعمل ألف حساب له‏..‏
عاد ابوعجور الي غرفته حيث استكمل نشاطه في تكملة النوم‏..‏
الساعة الرابعة بعد الظهر دق باب غرفة ابوعجور‏..‏
كان الطارق شيخ الغفر‏..‏
قال شيخ الغفر لابوعجور‏:‏ العمدة عاوزك يابوعجور‏..‏
قال ابوعجور‏:‏ عاوزني في ايه‏..‏
قال شيخ الغفر‏:‏ ما قاليش‏..‏ هو عاوزك وبس‏..‏
قال ابوعجور وهو يمثل دور الرجل الخطير ـ انا مش فاضي دلوقتي يا شيخ الغفر‏..‏
قال شيخ الغفر ـ تعالي معايا يابوعجور بدال ما تروح شايلينك مرابعة واصداغك مورمة‏..‏
انصاع ابوعجور للأمر وذهب مع شيخ الغفر وهو يوسع خطواته‏..‏

كان العمدة يجلس في غرفة الضيوف مع شخص تبدو عليه المهابة وان كان صامتا‏..‏
سأل العمدة ابوعجور وهو يمسك في يده طاقية‏..‏
ـ الطاقة دي تبعك يابوعجور والا مش تبعك‏..‏
نظر ابوعجور في الطاقية وقال ـ شبه طاقيتي‏..‏
تكلم الرجل الصامت في الغرفة واعاد سؤال العمده بشكل آخر‏..‏
قال مخاطبا ابوعجور ـ دي طاقيتك والا لأ‏..‏
تردد ابوعجور قليلا وقال انها طاقيته‏..‏

وهنا صرفه الرجل الغامض وبقي مع العمدة‏,‏ اما ابوعجور فبقي وحده في الخارج‏.....‏

‏[‏مشهد‏1]‏
غرفة الضيوف في بيت العمدة‏..‏
العمدة يجلس مع ضابط المباحث‏..‏
يلتفت ضابط المباحث ويقول للعمدة‏..‏

ـ ايه رأيك يا عمدة‏..‏
العمدة بانفعال خفيف ـ ما تصدقوش يا سعادة البك‏,‏ ده هايف وهلفوت ولا يقتلش‏...‏ ما يعرفش يقتل‏..‏ خايب في كله‏..‏

قال الضابط بنفاد صبر‏..‏
ـ ما اصدقوش ازاي‏...‏ اذا كانت طاقيته جنب الجثة‏..‏

قال العمدة للضابط‏:‏
ـ انا ححكي لسعادتك حكاية كان بطلها أبوعجور‏,‏ في يوم زمان اتسرقت بهايم في البلد‏...‏ انكسرت الزريبة والبهايم اتسرقت‏,‏ فات ابوعجور عا الزربية ووقف يتفرج مع الناس اللي بتتفرج‏,‏ قبل ما يمشي رمي طاقيته في الزريبة‏..‏

المباحث جابته‏..‏ دي طاقيتك‏..‏ قال شبهها‏.‏ سألوه فين البهايم اللي سرقتها‏..‏ قال انا لا شفت بهايم ولا سرقت بهايم‏..‏ أنا لاني فاهمه كنت مصدقه‏..‏
مسكته عجنته م الضرب لحد ما اعترف انه رمي طاقيته في الزريبة‏..‏

غاوي منظرة‏...‏ هلفوت وخايب‏..‏
نهض الضابط ونظر في ساعته وقال للعمدة ـ انا مش جاي لك تحكي لي حواديت يا عمدة‏..‏ انا عاوزك تعرف لي معلومات عن ابوعجوز‏,‏ وعايز اعرف معارفة وقرايبة واصحابة‏..‏ وبعدين ابعتهولي احطه في التخشيبه لحد ما يعترف‏..‏

انصرف الضابط وبقي العمدة وحدة‏,‏ استدعي العمدة ابوعجور وقال له ـ يا ابوعجور‏..‏ انا عارف انك هايف‏..‏ واهبل وعاوز الناس تشاور عليك وتقول ابوعجور قتل شيخ البلد‏,‏ وانت لا قتلت ولا هببت‏....‏

اطلع م الحكاية قبل ما الدنيا تتطربأ عليك‏..‏
دكهه كانت سرقة بهايم وفيها حبس‏,‏ المرة دي ممكن يبقي فيها إعدام‏.‏ احسبها انت بقه وقول لي‏..‏
فكر ابوعجور في الكلام الذي يقوله العمدة ورآة منطقيا‏..‏ ارتعش في ملابسه وسأل العمدة‏..‏

ـ اعمل ايه دلوقتي يا عمدة؟
قال العمدة ـ اعترف باللي حصل‏..‏ قول الحقيقة‏..‏

قال ابوعجور ـ اقولها لمين؟
قال العمدة ـ قولها لمحمود بك ظابط المباحث‏..‏ وروح سلمه نفسك انا حبعت معاك شيخ الغفر‏..‏

‏[‏مشهد‏2]‏
طريق زراعي طويل‏..‏
ابوعجور يسير في الطريق مع شيخ الغفر‏..‏

قال شيخ الغفر بلهجة آمره‏..‏
ـ اشتري لنا علبة دخان يا بوعجور‏..‏ وفتح مخك في القسم‏..‏ ولا تزعلش لو حد ضربك‏,‏ ضرب الحكومه شرف‏..‏

استقبل ابوعجور هذه الكلمات وجسده كله ينتفض‏,‏ انه يذكر المرة الاولي في حادث البهايم المسروقه‏,‏ لقد عجنه العمدة من الضرب‏.‏
وهذه المرة لا يعرف من الذي سيضربه‏,‏ واحس ابوعجور بالرهبة‏..‏ وراح يتساءل بينه وبين نفسه‏..‏

ـ ماذا لو لم يصدقوه‏..‏ ماذا لو حكم عليه بالاعدام في قتل شيخ البلد‏,‏ بينما الحقيقة انه لا يعرف شكل شيخ البلد ولم يره في حياته غير لحظات‏..‏
ومضي ابوعجور يفكر حتي اهتدي الي حل‏..‏
سيتبع كلام العمدة‏..‏ سيقول الحقيقة كاملة لضابط المباحث وسيعترف بما حدث دون زيادة او نقصان‏..‏

‏[‏مشهد‏3]‏
قسم البوليس
كان البك ظابط المباحث مشغولا حين وصل ابوعجور فأودعوه في التخشيبة‏..‏

راح ابوعجور يتأمل وجوه المجرمين حوله‏..‏ كان هناك اللصوص وكان هناك القتلة بحق وحقيق‏..‏
سأله واحد تبدو عليه علامات الاجرام‏..‏

ـ انت جاي بتهمه ايه؟
قال ابوعجور‏:‏
ـ تهمة قتل‏.‏
عاد الرجل يسأله ـ طبعا حتقول ما قتلتش‏..‏

قال ابوعجور‏:‏ انا فعلا ما قتلتش‏..‏ الحكاية كلها آن الطاقية وقعت مني جنب القتيل ـ لم بكد الرجل يسمع كلام ابوعجور حتي انفجر ضاحكا وراح يقهقه ويضرب الارض بأقدامه وهو يقول ـ كلهم بيقولوا كده‏..‏ ايه الجبن ده‏..‏
واحد قتل يقول انا قتلت‏..‏

‏[‏مشهد‏4]‏
غرفة ضابط المباحث‏..‏
ابوعجور واقف وضابط المباحث جالس يقرأ‏..‏
أوراقا في يده‏,‏ ثم يلتفت لأبوعجور بعد فترة قائلا‏:‏

ـ مش حتقول لي تفسير لوجود طاقيتك جنب جثة شيخ البلد‏..‏

قال ابوعجور ـ انا حقول لسعادتك اللي حصل بالظبط انا لما رحت مكان الحادثة كانت الطاقية معايا‏,‏ وكان شيخ البلد قتيل‏..‏ وقعت مني الطاقية وانا ماشي مروح انا لا قتلت ولا هببت‏..‏

قال ضابط المباحث ـ ده كلام مش مقنع يا ابوعجور قولنا اللي حصل ولا تكدبش‏..‏

من البولس الي النيابة ومن النيابة الي المحكمة أما نهاية الصورة فكان ابوعجور يقف وراء قضبان السجن متهما في قضية قتل‏.‏ اسانيده فيها واهية‏.‏ ودفاعه فيها متهافت‏..‏

واقترب ابوعجور من حبل المشنقة او اقترب منه حبل المشنقة‏,‏ ثم وقعت المعجزة‏..‏

ثم العثور علي قاتل شيخ البلد‏,‏ واعترف فاطلق سراح ابوعجور‏,‏ من يومها لم يعد يرتدي الطاقية حتي في فصل الشتاء‏..‏

0 التعليقات:

إرسال تعليق